فصل: الْبَابُ الْأَوَّلُ: فِي حَدِّ الزِّنَى:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بداية المجتهد ونهاية المقتصد (نسخة منقحة)



.كِتَابٌ فِي أَحْكَامِ الزِّنَى:

وَالنَّظَرُ فِي أُصُولِ هَذَا الْكِتَابِ فِي حَدِّ الزِّنَا، وَفِي أَصْنَافِ الزُّنَاةِ، وَفِي الْعُقُوبَاتِ لِكُلِّ صِنْفٍ مِنْهُمْ، وَفِيمَا تَثْبُتُ بِهِ هَذِهِ الْفَاحِشَةُ.

.الْبَابُ الْأَوَّلُ: فِي حَدِّ الزِّنَى:

فَأَمَّا الزِّنَى فَهُوَ كُلُّ وَطْءٍ وَقَعَ عَلَى غَيْرِ نِكَاحٍ وَلَا شُبْهَةِ نِكَاحٍ وَلَا مِلْكِ يَمِينٍ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بِالْجُمْلَةِ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانُوا اخْتَلَفُوا فِيمَا هُوَ شُبْهَةٌ تَدْرَأُ الْحُدُودَ مِمَّا لَيْسَ بِشُبْهَةٍ دَارِئَةٍ. وَفِي ذَلِكَ مَسَائِلُ نَذْكُرُ مِنْهَا أَشْهَرَهَا. فَمِنْهَا الْأَمَةُ يَقَعُ عَلَيْهَا الرَّجُلُ وَلَهُ فِيهَا شِرْكٌ، فَقَالَ مَالِكٌ: يُدْرَأُ عَنْهُ الْحَدُّ وَإِنْ وَلَدَتْ أُلْحِقَ الْوَلَدُ بِهِ وَقُوِّمَتْ عَلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ يُعَزَّرُ، وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: عَلَيْهِ الْحَدُّ كَامِلًا إِذَا عَلِمَ الْحُرْمَةَ. وَحُجَّةُ الْجَمَاعَةِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ» وَالَّذِينَ دَرَءُوا الْحُدُودَ اخْتَلَفُوا هَلْ يَلْزَمُهُ مِنْ صَدَاقِ الْمِثْلِ بِقَدْرِ نَصِيبِهِ أَمْ لَا يَلْزَمُ؟
وَسَبَبُ الْخِلَافِ: هَلْ ذَلِكَ الَّذِي يُغَلَّبُ مِنْهَا حُكْمُهُ عَلَى الْجُزْءِ الَّذِي لَا يَمْلِكُ أَمْ حُكْمُ الَّذِي لَا يَمْلِكُ يُغَلَّبُ عَلَى حُكْمِ الَّذِي يَمْلِكُ؟
فَإِنَّ حُكْمَ مَا مَلَكَ الْحِلِّيَةُ، وَحُكْمَ مَا لَمْ يَمْلِكِ الْحُرْمِيَّةُ. وَمِنْهَا اخْتِلَافُهُمْ فِي الرَّجُلِ الْمُجَاهِدِ يَطَأُ جَارِيَةً مِنَ الْمَغْنَمِ، فَقَالَ قَوْمٌ: عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَدَرَأَ قَوْمٌ عَنْهُ الْحَدَّ وَهُوَ أَشْبَهُ. وَالسَّبَبُ فِي هَذِهِ وَفِي الَّتِي قَبْلَهَا وَاحِدٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْهَا أَنْ يُحِلَّ رَجُلٌ لِرَجُلٍ وَطْءَ خَادِمِهِ، فَقَالَ مَالِكٌ: يُدْرَأُ عَنْهُ الْحَدُّ، وَقَالَ غَيْرُهُ: يُعَزَّرُ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: بَلْ هِيَ هِبَةٌ مَقْبُوضَةٌ وَالرَّقَبَةُ تَابِعَةٌ لِلْفَرْجِ. وَمِنْهَا الرَّجُلُ يَقَعُ عَلَى جَارِيَةِ ابْنِهِ أَوِ ابْنَتِهِ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا حَدَّ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِرَجُلٍ خَاطَبَهُ: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ» وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يُقَادُ الْوَالِدُ بِالْوَلَدِ» وَلِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ فِيمَا سَرَقَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا: تُقَوَّمُ عَلَيْهِ حَمَلَتْ أَمْ لَمْ تَحْمِلْ، لِأَنَّهَا قَدْ حَرُمَتْ عَلَى ابْنِهِ فَكَأَنَّهُ اسْتَهْلَكَهَا.
وَمِنَ الْحُجَّةِ لَهُمْ أَيْضًا إِجْمَاعُهُمْ عَلَى أَنَّ الْأَبَ لَوْ قَتَلَ ابْنَ ابْنِهِ لَمْ يَكُنْ لِلِابْنِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ أَبِيهِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ كَانَ الِابْنُ لَهُ وَلِيًّا. وَمِنْهَا الرَّجُلُ يَطَأُ جَارِيَةَ زَوْجَتِهِ، اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
فَقَالَ مَالِكٌ وَالْجُمْهُورُ: عَلَيْهِ الْحَدُّ كَامِلًا.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ لَيْسَ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَتُقَوَّمُ عَلَيْهِ فَيَغْرَمُهَا لِزَوْجَتِهِ إِنْ كَانَتْ طَاوَعَتْهُ، وَإِنْ كَانَتِ اسْتَكْرَهَهَا قُوِّمَتْ عَلَيْهِ وَهِيَ حُرَّةٌ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَالْأَوَّلُ قَوْلُ عُمَرَ، وَرَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْهُ.
وَقَالَ قَوْمٌ: عَلَيْهِ مِائَةُ جَلْدَةٍ فَقَطْ سَوَاءٌ كَانَ مُحْصَنًا أَمْ ثَيِّبًا.
وَقَالَ قَوْمٌ: عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ. فَعُمْدَةُ مَنْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْحَدَّ أَنَّهُ وَطِئَ دُونَ مِلْكٍ تَامٍّ وَلَا شَرِكَةِ مِلْكٍ وَلَا نِكَاحٍ فَوَجَبَ الْحَدُّ. وَعُمْدَةُ مَنْ دَرَأَ الْحَدَّ مَا ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَضَى فِي رَجُلٍ وَطِئَ جَارِيَةَ امْرَأَتِهِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ اسْتَكْرَهَهَا فَهِيَ حُرَّةٌ وَعَلَيْهِ مِثْلُهَا لِسَيِّدَتِهَا، وَإِنْ كَانَتْ طَاوَعَتْهُ فَهِيَ لَهُ، وَعَلَيْهِ لِسَيِّدَتِهَا مِثْلُهَا. وَأَيْضًا فَإِنَّ لَهُ شُبْهَةً فِي مَالِهَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِثَلَاثٍ، فَذَكَرَ مَالَهَا»، وَيَقْوَى هَذَا الْمَعْنَى عَلَى أَصْلِ مَنْ يَرَى أَنَّ الْمَرْأَةَ مَحْجُورٌ عَلَيْهَا مِنْ زَوْجِهَا فِيمَا فَوْقَ الثُّلُثِ، أَوْ فِي الثُّلُثِ فَمَا فَوْقَهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ. وَمِنْهَا مَا يَرَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ دَرْءِ الْحَدِّ عَنْ وَاطِئِ الْمُسْتَأْجَرَةِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ فِي ذَلِكَ ضَعِيفٌ وَمَرْغُوبٌ عَنْهُ، وَكَأَنَّهُ رَأَى أَنَّ هَذِهِ الْمَنْفَعَةَ أَشْبَهَتْ سَائِرَ الْمَنَافِعِ الَّتِي اسْتَأْجَرَهَا عَلَيْهَا، فَدَخَلَتِ الشُّبْهَةُ وَأَشْبَهَ نِكَاحَ الْمُتْعَةِ. وَمِنْهَا دَرْءُ الْحَدِّ عَمَّنِ امْتَنَعَ اخْتُلِفَ فِيهِ أَيْضًا.
وَبِالْجُمْلَةِ فَالْأَنْكِحَةُ الْفَاسِدَةُ دَاخِلَةٌ فِي هَذَا الْبَابِ، وَأَكْثَرُهَا عِنْدَ مَالِكٍ تُدْرَأُ بِالْحَدِّ إِلَّا مَا انْعَقَدَ مِنْهَا عَلَى شَخْصٍ مُؤَبَّدِ التَّحْرِيمِ بِالْقَرَابَةِ مِثْلَ الْأُمِّ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، مِمَّا لَا يُعْذَرُ فِيهِ بِالْجَهْلِ.

.الْبَابُ الثَّانِي: فِي أَصْنَافِ الزُّنَاةِ وَعُقُوبَاتِهِمْ:

وَالزُّنَاةُ الَّذِينَ تَخْتَلِفُ الْعُقُوبَةُ بِاخْتِلَافِهِمْ أَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ: مُحْصَنُونَ: ثُيَّبٌ وَأَبْكَارٌ وَأَحْرَارٌ وَعَبِيدٌ وَذُكُورٌ وَإِنَاثٌ. وَالْحُدُودُ الْإِسْلَامِيَّةُ ثَلَاثَةٌ: رَجْمٌ، وَجَلْدٌ، وَتَغْرِيبٌ. فَأَمَّا الثُّيَّبُ الْأَحْرَارُ الْمُحْصَنُونَ، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ حَدَّهُمُ الرَّجْمُ إِلَّا فِرْقَةً مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ فَإِنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ حَدَّ كُلِّ زَانٍ الْجَلْدُ، وَإِنَّمَا صَارَ الْجُمْهُورُ لِلرَّجْمِ لِثُبُوتِ أَحَادِيثِ الرَّجْمِ، فَخَصَّصُوا الْكِتَابَ بِالسُّنَّةِ (أَعْنِي: قَوْلَهُ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} الْآيَةَ). وَاخْتَلَفُوا فِي مَوْضِعَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: هَلْ يَجْلِدُونَ مَعَ الرَّجْمِ أَمْ لَا؟
الْمَوْضِعُ الثَّانِي فِي شُرُوطِ الْإِحْصَانِ.

.[الْمَسْأَلَةُ الأُولَى]: [هَلْ يُجْلَدُ الزَّانِي مَعَ الرَّجْمِ؟

]:
أَمَّا الْمَسْأَلَةُ الأُولَى فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا هَلْ يُجْلَدُ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الرَّجْمُ قَبْلَ الرَّجْمِ أَمْ لَا؟
فَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا جَلْدَ عَلَى مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الرَّجْمُ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَحْمَدُ، وَدَاوُدُ: الزَّانِي الْمُحْصَنُ يُجْلَدُ ثُمَّ يُرْجَمُ.
عُمْدَةُ الْجُمْهُورِ:
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَمَ مَاعِزًا، وَرَجَمَ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ، وَرَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ وَامْرَأَةً مِنْ عَامِرٍ مِنَ الْأَزْدِ، كُلُّ ذَلِكَ مُخَرَّجٌ فِي الصِّحَاحِ وَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ جَلَدَ وَاحِدًا مِنْهُمْ. وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ الْحَدَّ الْأَصْغَرَ يَنْطَوِي فِي الْحَدِّ الْأَكْبَرِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْحَدَّ إِنَّمَا وُضِعَ لِلزَّجْرِ فَلَا تَأْثِيرَ لِلزَّجْرِ بِالضَّرْبِ مَعَ الرَّجْمِ.
وَعُمْدَةُ الْفَرِيقِ الثَّانِي:
عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} فَلَمْ يُخَصَّ مُحْصَنٌ مِنْ غَيْرِ مُحْصَنٍ. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِحَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ: «أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَلَدَ شُرَاحَةَ الْهَمْدَانِيَّةَ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَرَجَمَهَا يَوْمَ الْجُمْعَةِ، وَقَالَ: جَلَدْتُهَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَرَجَمْتُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِهِ».
وَحَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَفِيهِ أَنَّ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ بِالْحِجَارَةِ».

.[الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ]: [شُرُوطُ الْإِحْصَانِ]:

وَأَمَّا الْإِحْصَانُ فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ مِنْ شَرْطِ الرَّجْمِ. وَاخْتَلَفُوا فِي شُرُوطِهِ، فَقَالَ مَالِكٌ: الْبُلُوغُ وَالْإِسْلَامُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالْوَطْءُ فِي عَقْدٍ صَحِيحٍ، وَحَالَةٌ جَائِزٌ فِيهَا الْوَطْءُ، (وَالْوَطْءُ الْمَحْظُورُ عِنْدَهُ: هُوَ الْوَطْءُ فِي الْحَيْضِ أَوْ فِي الصِّيَامِ)، فَإِذَا زَنَى بَعْدَ الْوَطْءِ الَّذِي بِهَذِهِ الصِّفَةِ - وَهُوَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ - فَحَدُّهُ عِنْدَهُ الرَّجْمُ، وَوَافَقَ أَبُو حَنِيفَةَ مَالِكًا فِي هَذِهِ الشُّرُوطِ إِلَّا فِي الْوَطْءِ الْمَحْظُورِ، وَاشْتَرَطَ فِي الْحُرِّيَّةِ أَنْ تَكُونَ مِنَ الطَّرَفَيْنِ (أَعْنِي: أَنْ يَكُونَ الزَّانِي وَالزَّانِيَةُ حُرَّيْنِ)، وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْإِسْلَامَ الشَّافِعِيُّ. وَعُمْدَةُ الشَّافِعِيِّ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَهُوَ حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ: «أَنَّ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَمَ الْيَهُودِيَّةَ وَالْيَهُودِيَّ اللَّذَيْنِ زَنَيَا» إِذْ رَفَعَ إِلَيْهِ أَمْرَهُمَا الْيَهُودُ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُول: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ}. وَعُمْدَةُ مَالِكٍ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّ الْإِحْصَانَ عِنْدَهُ فَضِيلَةٌ وَلَا فَضِيلَةَ مَعَ عَدَمِ الْإِسْلَامِ، وَهَذَا مَبْنَاهُ عَلَى أَنَّ الْوَطْءَ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ هُوَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، فَهَذَا هُوَ حُكْمُ الثَّيِّبِ.
وَأَمَّا الْأَبْكَارُ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ حَدَّ الْبِكْرِ فِي الزِّنَى الْجَلْدُ مِائَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} وَاخْتَلَفُوا فِي التَّغْرِيبِ مَعَ الْجَلْدِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: لَا تَغْرِيبَ أَصْلًا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا بُدَّ مِنَ التَّغْرِيبِ مَعَ الْجَلْدِ لِكُلِّ زَانٍ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا، وَقَالَ مَالِكٌ: يُغَرَّبُ الرَّجُلُ وَلَا تُغَرَّبُ الْمَرْأَةُ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَلَا تَغْرِيبَ عِنْدَ مَالِكٍ عَلَى الْعَبِيدِ.
فَعُمْدَةُ مَنْ أَوْجَبَ التَّغْرِيبَ عَلَى الْإِطْلَاقِ حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ الْمُتَقَدِّمُ وَفِيه: «الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ»، وَكَذَلِكَ مَا خَرَّجَ أَهْلُ الصِّحَاحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُمَا قَالَا: «إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَعْرَابِ أَتَى النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْشُدُكَ اللَّهَ إِلَّا قَضَيْتَ لِي بِكِتَابِ اللَّهِ، فَقَالَ الْخَصْمُ وَهُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ: نَعَمْ اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَائْذَنْ لِي أَنْ أَتَكَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ، قَالَ: إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، وَإِنِّي أُخْبِرْتُ أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ فَافْتَدَيْتُهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَوَلِيدَةٍ، فَسَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّمَا عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَأَنَّ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ: أَمَّا الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ فَرَدٌّ عَلَيْكَ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَاغَدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا، فَغَدَا عَلَيْهَا أُنَيْسٌ فَاعْتَرَفَتْ، فَأَمَرَ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِهَا فَرُجِمَتْ». وَمَنْ خَصَّصَ الْمَرْأَةَ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ فَإِنَّمَا خَصَّصَهُ بِالْقِيَاسِ، لِأَنَّهُ رَأَى أَنَّ الْمَرْأَةَ تُعَرَّضُ بِالْغُرْبَةِ لِأَكْثَرَ مِنَ الزِّنَى، وَهَذَا مِنَ الْقِيَاسِ الْمُرْسَلِ (أَعْنِي: الْمَصْلَحِيَّ الَّذِي كَثِيرًا مَا يَقُولُ بِهِ مَالِكٌ).
وَأَمَّا عُمْدَةُ الْحَنَفِيَّةِ فَظَاهِرُ الْكِتَابِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى رَأْيِهِمْ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ وَأَنَّهُ لَيْسَ يَنْسَخُ الْكِتَابَ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ. وَرَوَوْا عَنْ عُمَرَ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ حَدَّ وَلَمْ يُغَرِّبْ. وَرَوَى الْكُوفِيُّونَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ أَنَّهُمْ غَرَّبُوا.
وَأَمَّا حُكْمُ الْعَبِيدِ فِي هَذِهِ الْفَاحِشَةِ، فَإِنَّ الْعَبِيدَ صِنْفَانِ: ذُكُورٌ، وَإِنَاثٌ. أَمَّا الْإِنَاثُ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْأَمَةَ إِذَا تَزَوَّجَتْ وَزَنَتْ أَنَّ حَدَّهَا خَمْسُونَ جَلْدَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} وَاخْتَلَفُوا إِذَا لَمْ تَتَزَوَّجْ، فَقَالَ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ: حَدُّهَا خَمْسُونَ جَلْدَةً، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا حَدَّ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا عَلَيْهَا تَعْزِيرٌ فَقَطْ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَقَالَ قَوْمٌ: لَا حَدَّ عَلَى الْأَمَةِ أَصْلًا. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمُ الِاشْتِرَاكُ الَّذِي فِي اسْمِ الْإِحْصَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} فَمَنْ فَهِمَ مِنَ الْإِحْصَانِ التَّزَوُّجَ وَقَالَ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ قَالَ: لَا تُجْلَدُ غَيْرُ الْمُتَزَوِّجَةِ، وَمَنْ فَهِمَ مِنَ الْإِحْصَانِ الْإِسْلَامَ جَعَلَهُ عَامًّا فِي الْمُتَزَوِّجَةِ وَغَيْرِهَا. وَاحْتَجَّ مَنْ لَمْ يَرَ عَلَى غَيْرِ الْمُتَزَوِّجَةِ حَدًّا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سُئِلَ عَنِ الْأَمَةِ إِذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَنْ، فَقَالَ: «إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا ثُمَّ إِنَّ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا ثُمَّ بِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ».
وَأَمَّا الذَّكَرُ مِنَ الْعَبِيدِ، فَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ حَدَّ الْعَبْدِ نِصْفُ حَدِّ الْحُرِّ قِيَاسًا عَلَى الْأَمَةِ، وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: بَلْ حَدُّهُ مِائَةُ جَلْدَةٍ مَصِيرًا إِلَى عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} وَلَمْ يُخَصِّصْ حُرًّا مِنْ عَبْدٍ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ دَرَأَ الْحَدَّ قِيَاسًا عَلَى الْأَمَةِ وَهُوَ شَاذٌّ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. فَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ فِي أَصْنَافِ الْحُدُودِ وَأَصْنَافِ الْمَحْدُودِينَ وَالشَّرَائِطِ الْمُوجِبَةِ لِلْحَدِّ فِي وَاحِدٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. وَيَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْقَوْلِ فِي كَيْفِيَّةِ الْحُدُودِ، وَفِي وَقْتِهَا.

.[كَيْفَ تُقَامُ الْحُدُودُ؟

]:
فَأَمَّا كَيْفِيَّتُهَا فَمِنْ مَشْهُورِ الْمَسَائِلِ الْوَاقِعَةِ فِي هَذَا الْجِنْسِ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْحَفْرِ لِلْمَرْجُومِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يُحْفَرُ لَهُ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ فِي شُرَاحَةَ الْهَمْدَانِيَّةِ حِينَ أَمَرَ بِرَجْمِهَا، وَبِهِ قَالَ: أَبُو ثَوْرٍ، وَفِيهِ: فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمْعَةِ أَخْرَجَهَا فَحَفَرَ لَهَا حَفِيرَةً فَأُدْخِلَتْ فِيهَا وَأَحْدَقَ النَّاسُ بِهَا يَرْمُونَهَا، فَقَالَ: لَيْسَ هَكَذَا الرَّجْمُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُصِيبَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَلَكِنْ صُفُّوًا كَمَا تَصُفُّونَ فِي الصَّلَاةِ، ثُمَّ قَالَ: الرَّجْمُ رَجْمَانِ: رَجْمُ سِرٍّ وَرَجْمُ عَلَانِيَةٍ، فَمَا كَانَ مِنْهُ إِقْرَارٌ فَأَوَّلُ مَنْ يَرْجُمُ الْإِمَامُ ثُمَّ النَّاسُ، وَمَا كَانَ بِبَيِّنَةٍ فَأَوَّلُ مَنْ يَرْجُمُ الْبَيِّنَةُ ثُمَّ الْإِمَامُ ثُمَّ النَّاسُ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُحْفَرُ لِلْمَرْجُومِ، وَخَيَّرَ فِي ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ، وَقِيلَ عَنْهُ: يُحْفَرُ لِلْمَرْأَةِ فَقَطْ. وَعُمْدَتُهُمْ مَا خَرَّجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، قَالَ جَابِرٌ: فَرَجَمْنَاهُ بِالْمُصَلَّى، فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ فَرَّ، فَأَدْرَكْنَاهُ بِالْحَرَّةِ فَرَضَخْنَاهُ. وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ أَنَّهُ حُفِرَ لَهُ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ حُفْرَةٌ. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ مُخْتَلِفَةٌ.
قَالَ أَحْمَدُ: أَكْثَرُ الْأَحَادِيثِ عَلَى أَنْ لَا حَفْرَ. وَقَالَ مَالِكٌ: يُضْرَبُ فِي الْحُدُودِ الظَّهْرُ وَمَا يُقَارِبُهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: يُضْرَبُ سَائِرُ الْأَعْضَاءِ وَيُتَّقَى الْفَرْجُ وَالْوَجْهُ، وَزَادَ أَبُو حَنِيفَةَ الرَّأْسَ. وَيُجَرَّدُ الرَّجُلُ عِنْدَ مَالِكٍ فِي ضَرْبِ الْحُدُودِ كُلِّهَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ مَا عَدَا الْقَذْفَ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَعْدُ، وَيُضْرَبُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ قَاعِدًا وَلَا يُقَامُ قَائِمًا خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: إِنَّهُ يُقَامُ لِظَاهِرِ الْآيَةِ. وَيُسْتَحَبُّ عِنْدَ الْجَمِيعِ أَنْ يُحْضِرَ الْإِمَامُ عِنْدَ إِقَامَةِ الْحُدُودِ طَائِفَةً مِنَ النَّاسِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اسْمُ الطَّائِفَةِ، فَقَالَ مَالِكٌ: أَرْبَعَةٌ، وَقِيلَ: ثَلَاثَةٌ، وَقِيلَ: اثْنَانِ، وَقِيلَ: سَبْعَةٌ، وَقِيلَ: مَا فَوْقَهَا.

.[وَقْتُ إِقَامَةِ الْحَدِّ]:

أَمَّا الْوَقْتُ، فَإِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقَامُ فِي الْحَرِّ الشَّدِيدِ وَلَا فِي الْبَرْدِ، وَلَا يُقَامُ عَلَى الْمَرِيضِ، وَقَالَ قَوْمٌ: يُقَامُ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَاحْتَجَّا بِحَدِيثِ عُمَرَ أَنَّهُ أَقَامَ الْحَدَّ عَلَى قُدَامَةَ وَهُوَ مَرِيضٌ. وَسَبَبُ الْخِلَافِ مُعَارَضَةُ أَهْلِ الظَّوَاهِرِ لِلْمَفْهُومِ مِنَ الْحَدِّ، وَهُوَ أَنْ يُقَامَ حَيْثُ لَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّ الْمُقِيمِ لَهُ فَوَاتُ نَفْسِ الْمَحْدُودِ. فَمَنْ نَظَرَ إِلَى الْأَمْرِ بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ قَالَ: يُحَدُّ الْمَرِيضُ، وَمَنْ نَظَرَ إِلَى الْمَفْهُومِ مِنَ الْحَدِّ قَالَ: لَا يُحَدُّ الْمَرِيضُ حَتَّى يَبْرَأَ، وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ.

.الْبَابُ الثَّالِثُ وَهُوَ مَعْرِفَةٌ مَا تَثْبُتُ بِهِ هَذِهِ الْفَاحِشَةُ:

وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الزِّنَى يَثْبُتُ بِالْإِقْرَارِ وَبِالشَّهَادَةِ. وَاخْتَلَفُوا فِي ثُبُوتِهِ بِظُهُورِ الْحَمْلِ فِي النِّسَاءِ الْغَيْرِ الْمُتَزَوِّجَاتِ إِذَا ادَّعَيْنَ الِاسْتِكْرَاهَ. وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي شُرُوطِ الْإِقْرَارِ وَشُرُوطِ الشَّهَادَةِ.
فَأَمَّا الْإِقْرَارُ فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: عَدَدُ مَرَّاتِ الْإِقْرَارِ الَّذِي يَلْزَمُ بِهِ الْحَدُّ. وَالْمَوْضِعُ الثَّانِي: هَلْ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ لَا يَرْجِعَ عَنِ الْإِقْرَارِ حَتَّى يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ؟

.[الْمَسْأَلَةُ الأُولَى]: [عَدَدُ مَرَّاتِ الْإِقْرَارِ الَّذِي يَلْزَمُ بِهِ الْحَدُّ]:

أَمَّا عَدَدُ الْإِقْرَارِ الَّذِي يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ، فَإِنَّ مَالِكًا وَالشَّافِعِيَّ يَقُولَانِ: يَكْفِي فِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ اعْتِرَافُهُ بِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَبِهِ قَالَ أَبُو دَاوُدَ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَالطَّبَرِيُّ وَجَمَاعَةٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَا يَجِبُ الْحَدُّ إِلَّا بِأَقَارِيرَ أَرْبَعَةٍ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَزَادَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: فِي مَجَالِسَ مُتَفَرِّقَةٍ. وَعُمْدَةُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا، فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا» وَلَمْ يَذْكُرْ عَدَدًا. وَعُمْدَةُ الْكُوفِيِّينَ مَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «أَنَّهُ رَدَّ مَاعِزًا حَتَّى أَقَرَّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ ثُمَّ أَمَرَ بِرَجْمِهِ»، وَفِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ قَالُوا: وَمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ أَقَرَّ مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ وَثَلَاثًا تَقْصِيرٌ، وَمَنْ قَصَّرَ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى مَنْ حَفِظَ.

.[الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ]: [الرُّجُوعُ عَنِ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَى]:

وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ مَنِ اعْتَرَفَ بِالزِّنَى ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ يُقْبَلُ رُجُوعُهُ، إِلَّا ابْنَ أَبِي لَيْلَى وَعُثْمَانَ الْبَتِّيَّ، وَفَصَّلَ مَالِكٌ فَقَالَ: إِنْ رَجَعَ إِلَى شُبْهَةٍ قَبْلَ رُجُوعِهِ، وَأَمَّا إِنْ رَجَعَ إِلَى غَيْرِ شُبْهَةٍ فَعَنْهُ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا يُقْبَلُ وَهِيَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ. وَالثَّانِيَةُ لَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ. وَإِنَّمَا صَارَ الْجُمْهُورُ إِلَى تَأْثِيرِ الرُّجُوعِ فِي الْإِقْرَارِ لِمَا ثَبَتَ مِنْ تَقْرِيرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاعِزًا وَغَيْرَهُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ لَعَلَّهُ يَرْجِعُ، وَلِذَلِكَ لَا يَجِبُ عَلَى مَنْ أَوْجَبَ سُقُوطَ الْحَدِّ بِالرُّجُوعِ أَنْ يَكُونَ التَّمَادِي عَلَى الْإِقْرَارِ شَرْطًا مِنْ شُرُوطِ الْحَدِّ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ: «أَنَّ مَاعِزًا لَمَّا رُجِمَ وَمَسَّتْهُ الْحِجَارَةُ هَرَبَ فَاتَّبَعُوهُ، فَقَالَ لَهُمْ: رُدُّونِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَقَتَلُوهُ رَجْمًا وَذَكَرُوا ذَلِكَ إِلَى النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَقَالَ: هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ لَعَلَّهُ يَتُوبُ فَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ»، وَمِنْ هُنَا تَعَلَّقَ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّ التَّوْبَةَ تُسْقِطُ الْحُدُودَ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِهِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ عَدَمُ التَّوْبَةِ شَرْطًا ثَالِثًا فِي وُجُوبِ الْحَدِّ.
وَأَمَّا ثُبُوتُ الزِّنَى بِالشُّهُودِ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَثْبُتُ الزِّنَى بِالشُّهُودِ، وَأَنَّ الْعَدَدَ الْمُشْتَرَطَ فِي الشُّهُودِ أَرْبَعَةٌ بِخِلَافِ سَائِرِ الْحُقُوقِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} وَأَنَّ مِنْ صِفَتِهِمْ أَنْ يَكُونُوا عُدُولًا، وَأَنَّ مِنْ شَرْطِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ أَنْ تَكُونَ بِمُعَايَنَةِ فَرْجِهِ فِي فَرْجِهَا، وَأَنَّهَا تَكُونُ بِالتَّصْرِيحِ لَا بِالْكِنَايَةِ، وَجُمْهُورُهُمْ عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ أَنْ لَا تَخْتَلِفَ لَا فِي زَمَانٍ وَلَا فِي مَكَانٍ إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ مَسْأَلَةِ الزَّوَايَا الْمَشْهُورَةِ، وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَرْبَعَةِ أَنَّهُ رَآهَا فِي رُكْنٍ مِنَ الْبَيْتِ يَطَؤُهَا غَيْرِ الرُّكْنِ الَّذِي رَآهُ فِيهِ الْآخَرُ.
وَسَبَبُ الْخِلَافِ هَلْ تُلَفَّقُ الشَّهَادَةُ الْمُخْتَلِفَةُ بِالْمَكَانِ أَمْ لَا تُلَفَّقُ كَالشَّهَادَةِ الْمُخْتَلِفَةِ بِالزَّمَانِ؟
فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا لَا تُلَفَّقُ، وَالْمَكَانُ أَشْبَهُ شَيْءٍ بِالزَّمَانِ. وَالظَّاهِرُ مِنَ الشَّرْعِ قَصْدُهُ إِلَى التَّوَثُّقِ فِي ثُبُوتِ هَذَا الْحَدِّ أَكْثَرَ مِنْهُ فِي سَائِرِ الْحُدُودِ.

.[هَلْ يُقَامُ الْحَدُّ بِظُهُورِ الْحَمَلِ مَعَ دَعْوَى الِاسْتِكْرَاهِ؟

]:
وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي إِقَامَةِ الْحُدُودِ بِظُهُورِ الْحَمْلِ مَعَ دَعْوَى الِاسْتِكْرَاهِ، فَإِنَّ طَائِفَةً أَوْجَبَتْ فِيهِ الْحَدَّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَاءَتْ بِأَمَارَةٍ عَلَى اسْتِكْرَاهِهَا، مِثْلَ أَنْ تَكُونَ بِكْرًا فَتَأْتِيَ وَهِيَ تَدْمَى، أَوْ تَفْضَحَ نَفْسَهَا بِأَثَرِ الِاسْتِكْرَاهِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَهُ الْأَمْرُ إِذَا ادَّعَتِ الزَّوْجِيَّةَ إِلَّا أَنْ تُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ، مَا عَدَا الطَّارِئَةَ، فَإِنَّ ابْنَ الْقَاسِمِ قَالَ: إِذَا ادَّعَتِ الزَّوْجِيَّةَ وَكَانَتْ طَارِئَةً قَبْلَ قَوْلِهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُقَامُ عَلَيْهَا الْحَدُّ بِظُهُورِ الْحَمْلِ مَعَ دَعْوَى الِاسْتِكْرَاهِ وَكَذَلِكَ مَعَ دَعْوَى الزَّوْجِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ تَأْتِ فِي دَعْوَى الِاسْتِكْرَاهِ بِأَمَارَةٍ، وَلَا فِي دَعْوَى الزَّوْجِيَّةِ بِبَيِّنَةٍ، لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَقَرَّ ثُمَّ ادَّعَى الِاسْتِكْرَاهَ. وَمِنَ الْحُجَّةِ لَهُمْ مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ شُرَاحَةَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَهَا: «اسْتُكْرِهْتِ؟
قَالَتْ: لَا. قَالَ: فَلَعَلَّ رَجُلًا أَتَاكِ فِي نَوْمِكِ»
. قَالُوا: وَرَوَى الْأَثْبَاتُ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَبِلَ قَوْلَ امْرَأَةٍ ادَّعَتْ أَنَّهَا ثَقِيلَةُ النَّوْمِ وَأَنَّ رَجُلًا طَرَقَهَا فَمَضَى عَنْهَا وَلَمْ تَدْرِ مَنْ هُوَ بَعْدُ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الْمُسْتَكْرَهَةَ لَا حَدَّ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الصَّدَاقِ لَهَا. وَسَبَبُ الْخِلَافِ هَلِ الصَّدَاقُ عِوَضٌ عَنِ الْبُضْعِ أَوْ هُوَ نِحْلَةٌ؟
فَمَنْ قَالَ: عِوَضٌ عَنِ الْبُضْعِ أَوْجَبَهُ فِي الْبُضْعِ فِي الْحِلِّيَّةِ وَالْحُرْمِيَّةِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ نِحْلَةٌ خَصَّ اللَّهُ بِهِ الْأَزْوَاجَ لَمْ يُوجِبْهُ. وَهَذَا الْأَصْلُ كَافٍ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقِ لِلصَّوَابِ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا.

.كِتَابُ الْقَذْفِ:

وَالنَّظَرُ فِي هَذَا الْكِتَابِ: فِي الْقَذْفِ، وَالْقَاذِفِ، وَالْمَقْذُوفِ، وَفِي الْعُقُوبَةِ الْوَاجِبَةِ فِيهِ، وَبِمَاذَا تَثْبُتُ. وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْكِتَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} الْآيَةَ. فَأَمَّا الْقَاذِفُ شروطه فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِهِ وَصْفَيْنِ: وَهُمَا الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، حُرًّا أَوْ عَبْدًا، مُسْلِمًا أَوْ غَيْرَ مُسْلِمٍ.
وَأَمَّا الْمَقْذُوفُ شروطه فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَجْتَمِعَ فِيهِ خَمْسَةُ أَوْصَافٍ وَهِيَ: الْبُلُوغُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالْعَفَافُ وَالْإِسْلَامُ، وَأَنْ يَكُونَ مَعَهُ آلَةُ الزِّنَى، فَإِنِ انْخَرَمَ مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ وَصْفٌ لَمْ يَجِبِ الْحَدُّ، وَالْجُمْهُورُ بِالْجُمْلَةِ عَلَى اشْتِرَاطِ الْحُرِّيَّةِ فِي الْمَقْذُوفِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَدْخُلَ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ، وَمَالِكٌ يَعْتَبِرُ فِي سِنِّ الْمَرْأَةِ أَنْ تُطِيقَ الْوَطْءَ.
وَأَمَّا الْقَذْفُ الَّذِي يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ، فَاتَّفَقُوا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَرْمِيَ الْقَاذِفُ الْمَقْذُوفَ بِالزِّنَى.
وَالثَّانِي: أَنْ يَنْفِيَهُ عَنْ نَسَبِهِ إِذَا كَانَتْ أُمُّهُ حُرَّةً مُسْلِمَةً. وَاخْتَلَفُوا إِنْ كَانَتْ كَافِرَةً أَوْ أَمَةً، فَقَالَ مَالِكٌ: سَوَاءٌ كَانَتْ حُرَّةً أَوْ أَمَةً أَوْ مُسْلِمَةً أَوْ كَافِرَةً يَجِبُ الْحَدُّ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: لَا حَدَّ عَلَيْهِ إِذَا كَانَتْ أُمُّ الْمَقْذُوفِ أَمَةً أَوْ كِتَابِيَّةً، وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَاتَّفَقُوا أَنَّ الْقَذْفَ إِذَا كَانَ بِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ بِلَفْظٍ صَرِيحٍ وَجَبَ الْحَدُّ، وَاخْتَلَفُوا إِنْ كَانَ بِتَعْرِيضٍ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَا حَدَّ فِي التَّعْرِيضِ، إِلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيَّ يَرَيَانِ فِيهِ التَّعْزِيرَ، وَمِمَّنْ قَالَ بِقَوْلِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ: فِي التَّعْرِيضِ الْحَدُّ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ وَقَعَتْ فِي زَمَانِ عُمَرَ، فَشَاوَرَ عُمَرُ فِيهَا الصَّحَابَةَ، فَاخْتَلَفُوا فِيهَا عَلَيْهِ، فَرَأَى عُمَرُ فِيهَا الْحَدَّ. وَعُمْدَةُ مَالِكٍ أَنَّ الْكِنَايَةَ قَدْ تَقُومُ بِعُرْفِ الْعَادَةِ، وَالِاسْتِعْمَالِ مَقَامَ النَّصِّ الصَّرِيحِ، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ فِيهَا مُسْتَعْمَلًا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ (أَعْنِي: مَقُولًا بِالِاسْتِعَارَةِ). وَعُمْدَةُ الْجُمْهُورِ أَنَّ الِاحْتِمَالَ الَّذِي فِي الِاسْمِ الْمُسْتَعَارِ شُبْهَةٌ، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْكِنَايَةَ قَدْ تَقُومُ فِي مَوَاضِعَ مَقَامَ النَّصِّ، وَقَدْ تَضْعُفُ فِي مَوَاضِعَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكْثُرِ الِاسْتِعْمَالُ لَهَا. وَالَّذِي يَنْدَرِئُ بِهِ الْحَدُّ عَنِ الْقَاذِفِ أَنْ يَثْبُتَ زِنَى الْمَقْذُوفِ بِأَرْبَعَةِ شُهُودٍ بِإِجْمَاعٍ، وَالشُّهُودُ عِنْدَ مَالِكٍ إِذَا كَانُوا أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ قَذَفَةٌ، وَعِنْدَ غَيْرِهِ لَيْسُوا بِقَذَفَةٍ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْمَذْهَبُ فِي الشُّهُودِ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ عَلَى شُهُودِ الْأَصْلِ. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ هَلْ يُشْتَرَطُ فِي نَقْلِ شَهَادَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَدَدُ شُهُودِ الْأَصْلِ أَمْ يَكْفِي فِي ذَلِكَ اثْنَانِ عَلَى الْأَصْلِ الْمُعْتَبَرِ فِيمَا سِوَى الْقَذْفِ إِذْ كَانُوا مِمَّنْ لَا يَسْتَقِلُّ بِهِمْ نَقْلُ الشَّهَادَةِ مِنْ قِبَلِ الْعَدَدِ؟
وَأَمَّا الْحَدُّ فَالنَّظَرُ فِيهِ فِي جِنْسِهِ وَتَوْقِيتِهِ وَمَسْقَطِهِ. أَمَّا جِنْسُهُ، فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ ثَمَانُونَ جَلْدَةً لِلْقَاذِفِ الْحُرِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثَمَانِينَ جَلْدَةً}. وَاخْتَلَفُوا فِي الْعَبْدِ يَقْذِفُ الْحُرَّ، كَمْ حَدُّهُ؟
فَقَالَ الْجُمْهُورُ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ حَدُّهُ نِصْفُ حَدِّ الْحُرِّ، وَذَلِكَ أَرْبَعُونَ جَلْدَةً، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: حَدُّهُ حَدُّ الْحُرِّ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَجَمَاعَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ: أَبُو ثَوْرٍ، وَالْأَوْزَاعِيُّ وَدَاوُدُ وَأَصْحَابُهُ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ. فَعُمْدَةُ الْجُمْهُورِ قِيَاسُ حَدِّهِ فِي الْقَذْفِ عَلَى حَدِّهِ فِي الزِّنَى.
وَأَمَّا أَهْلُ الظَّاهِرِ فَتَمَسَّكُوا فِي ذَلِكَ بِالْعُمُومِ وَلَمَّا أَجْمَعُوا أَيْضًا أَنَّ حَدَّ الْكِتَابِيِّ ثَمَانُونَ، فَكَانَ الْعَبْدُ أَحْرَى بِذَلِكَ.
وَأَمَّا التَّوْقِيتُ فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا قَذَفَ شَخْصًا وَاحِدًا مِرَارًا كَثِيرَةً، فَعَلَيْهِ حَدٌّ وَاحِدٌ إِذَا لَمْ يُحَدَّ بِوَاحِدٍ مِنْهَا، وَأَنَّهُ إِذْ قَذَفَ فَحُدَّ ثُمَّ قَذَفَهُ ثَانِيَةً حُدَّ حَدًّا ثَانِيًا وَاخْتَلَفُوا إِذَا قَذَفَ جَمَاعَةً، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ جَمَعَهُمْ فِي الْقَذْفِ أَوْ فَرَّقَهُمْ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ، وَأَحْمَدُ وَجَمَاعَةٌ وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ عَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ حَدٌّ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَجَمَاعَةٌ حَتَّى رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ حُيَيٍّ أَنَّهُ قَالَ: إِنْ قَالَ إِنْسَانٌ: مَنْ دَخَلَ هَذِهِ الدَّارَ فَهُوَ زَانٍ جُلِدَ الْحَدَّ لِكُلِّ مَنْ دَخَلَهَا، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنْ جَمَعَهُمْ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: يَا زُنَاةُ، فَحَدٌّ وَاحِدٌ، وَإِنْ قَالَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ: يَا زَانِي فَعَلَيْهِ لِكُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ حَدٌّ. فَعُمْدَةُ مَنْ لَمْ يُوجِبْ عَلَى قَاذِفِ الْجَمَاعَةِ إِلَّا حَدًّا وَاحِدًا حَدِيثُ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَلَاعَنَ بَيْنَهُمَا وَلَمْ يَحُدَّهُ لِشَرِيكٍ، وَذَلِكَ إِجْمَاعٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيمَنْ قَذَفَ زَوْجَتَهُ بِرَجُلٍ. وَعُمْدَةُ مَنْ رَأَى أَنَّ الْحَدَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ حَقٌّ لِلْآدَمِيِّينَ، وَأَنَّهُ لَوْ عَفَا بَعْضُهُمْ وَلَمْ يَعْفُ الْكُلُّ لَمْ يَسْقُطِ الْحَدُّ.
وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ قَذْفِهِمْ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ كَلِمَاتٍ أَوْ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي مَجَالِسَ، فَلِأَنَّهُ رَأَى أَنَّهُ وَاجِبٌ أَنْ يَتَعَدَّدَ الْحَدُّ بِتَعَدُّدِ الْقَذْفِ، لِأَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ تَعَدُّدُ الْمَقْذُوفِ وَتَعَدُّدُ الْقَذْفِ كَانَ أَوْجَبَ أَنْ يَتَعَدَّدَ الْحَدُّ.
وَأَمَّا سُقُوطُهُ فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي سُقُوطِهِ بِعَفْوِ الْقَاذِفِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: لَا يَصِحُّ الْعَفْوُ (أَيْ: لَا يَسْقُطُ الْحَدُّ)، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَصِحُّ الْعَفْوُ (أَيْ: يَسْقُطُ الْحَدُّ) بَلَغَ الْإِمَامَ أَوْ لَمْ يَبْلُغْ، وَقَالَ قَوْمٌ: إِنْ بَلَغَ الْإِمَامَ لَمْ يَجُزِ الْعَفْوُ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْهُ جَازَ الْعَفْوُ. وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ، فَمَرَّةً قَالَ بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَمَرَّةً قَالَ: يَجُوزُ إِذَا لَمْ يَبْلُغِ الْإِمَامَ، وَإِنْ بَلَغَ لَمْ يَجُزْ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ الْمَقْذُوفُ السَّتْرَ عَلَى نَفْسِهِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْهُ. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ هَلْ هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ؟
أَوْ حَقٌّ لِلْآدَمِيِّينَ، أَوْ حَقٌّ لِكِلَيْهِمَا؟
فَمَنْ قَالَ: حَقٌّ لِلَّهِ لَمْ يُجِزِ الْعَفْوَ كَالزِّنَى، وَمَنْ قَالَ: حَقٌّ لِلْآدَمِيِّينَ أَجَازَ الْعَفْوَ، وَمَنْ قَالَ: لِكِلَيْهِمَا وَغَلَّبَ حَقَّ الْإِمَامِ إِذَا وَصَلَ إِلَيْهِ قَالَ: بِالْفَرْقِ بَيْنَ أَنْ يَصِلَ الْإِمَامَ أَوْ لَا يَصِلَ، وَقِيَاسًا عَلَى الْأَثَرِ الْوَارِدِ فِي السَّرِقَةِ. وَعُمْدَةُ مَنْ رَأَى أَنَّهُ حَقٌّ لِلْآدَمِيِّينَ - وَهُوَ الْأَظْهَرُ - أَنَّ الْمَقْذُوفَ إِذَا صَدَّقَهُ فِيمَا قَذَفَهُ بِهِ سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ.
وَأَمَّا مَنْ يُقِيمُ الْحَدَّ فَلَا خِلَافَ أَنَّ الْإِمَامَ يُقِيمُهُ فِي الْقَذْفِ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْقَاذِفِ مَعَ الْحَدِّ سُقُوطُ شَهَادَتِهِ مَا لَمْ يَتُبْ. وَاخْتَلَفُوا إِذَا تَابَ، فَقَالَ مَالِكٌ: تَجُوزُ شَهَادَتُهُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ أَبَدًا. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ هَلِ الِاسْتِثْنَاءُ يَعُودُ إِلَى الْجُمْلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَوْ يَعُودُ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا}، فَمَنْ قَالَ: يَعُودُ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ قَالَ: التَّوْبَةُ تَرْفَعُ الْفِسْقَ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَمَنْ رَأَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَتَنَاوَلُ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا قَالَ: التَّوْبَةُ تَرْفَعُ الْفِسْقَ وَرَدَّ الشَّهَادَةَ. وَكَوْنُ ارْتِفَاعِ الْفِسْقِ مَعَ رَدِّ الشَّهَادَةِ أَمْرًا غَيْرَ مُنَاسِبٍ فِي الشَّرْعِ (أَيْ: خَارِجٌ عَنِ الْأُصُولِ)، لِأَنَّ الْفِسْقَ مَتَى ارْتَفَعَ قُبِلَتِ الشَّهَادَةُ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تَرْفَعُ الْحَدَّ.
وَأَمَّا بِمَاذَا يَثْبُتُ؟
فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَثْبُتُ بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ حُرَّيْنِ ذَكَرَيْنِ.
وَاخْتُلِفَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ: هَلْ يَثْبُتُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ وَبِشَهَادَةِ النِّسَاءِ؟
وَهَلْ تَلْزَمُ فِي الدَّعْوَى فِيهِ يَمِينٌ؟
وَإِنْ نَكَلَ فَهَلْ يُحَدُّ بِالنُّكُولِ وَيَمِينِ الْمُدَّعِي؟
فَهَذِهِ هِيَ أُصُولُ هَذَا الْبَابِ الَّتِي تَنْبَنِي عَلَيْهِ فُرُوعُهُ. قَالَ الْقَاضِي: وَإِنْ أَنْسَأَ اللَّهُ فِي الْعُمُرِ فَسَنَضَعُ كِتَابًا فِي الْفُرُوعِ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ مُرَتَّبًا تَرْتِيبًا صِنَاعِيًّا، إِذْ كَانَ الْمَذْهَبَ الْمَعْمُولَ بِهِ فِي هَذِهِ الْجَزِيرَةِ، الَّتِي هِيَ جَزِيرَةُ الْأَنْدَلُسِ حَتَّى يَكُونَ بِهِ الْقَارِئُ مُجْتَهِدًا فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، لِأَنَّ إِحْصَاءَ جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ عِنْدِي شَيْءٌ يَنْقَطِعُ الْعُمُرُ دُونَهُ.

.بَابٌ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ:

وَالْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْجِنَايَةِ: فِي الْمُوجِبِ، وَالْوَاجِبِ، وَبِمَاذَا تَثْبُتُ هَذِهِ الْجِنَايَةُ؟
فَأَمَّا الْمُوجِبُ، فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ شُرْبُ الْخَمْرِ دُونَ إِكْرَاهٍ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُسْكِرَاتِ مِنْ غَيْرِهَا، فَقَالَ أَهْلُ الْحِجَازِ: حُكْمُهَا حُكْمُ الْخَمْرِ فِي تَحْرِيمِهَا وَإِيجَابُ الْحَدِّ عَلَى مَنْ شَرِبَهَا قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا أَوْ لَمْ يُسْكِرْ، وَقَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ: الْمُحَرَّمُ مِنْهَا هُوَ السُّكْرُ، وَهُوَ الَّذِي يُوجِبُ الْحَدَّ. وَقَدْ ذَكَرْنَا عُمْدَةَ أَدِلَّةِ الْفَرِيقَيْنِ فِي كِتَابِ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ.
وَأَمَّا الْوَاجِبُ فَهُوَ الْحَدُّ وَالتَّفْسِيقُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ التَّوْبَةُ، وَالتَّفْسِيقُ فِي شَارِبِ الْخَمْرِ بِاتِّفَاقٍ وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ السُّكْرِ، وَفِيمَنْ بَلَغَ حَدَّ السُّكْرِ فِيمَا سِوَى الْخَمْرِ. وَاخْتَلَفَ الَّذِينَ رَأَوْا تَحْرِيمَ قَلِيلِ الْأَنْبِذَةِ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ، وَأَكْثَرُ هَؤُلَاءِ عَلَى وُجُوبِهِ، إِلَّا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ الْحَدِّ الْوَاجِبِ في شرب الخمر، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: الْحَدُّ فِي ذَلِكَ ثَمَانُونَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُدُ: الْحَدُّ فِي ذَلِكَ أَرْبَعُونَ، هَذَا فِي حَدِّ الْحُرِّ.
وَأَمَّا حَدُّ الْعَبْدِ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حَدِّ الْحُرِّ، وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: حَدُّ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ سَوَاءٌ، وَهُوَ أَرْبَعُونَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ عِشْرُونَ، وَعِنْدَ مَنْ قَالَ: ثَمَانُونَ أَرْبَعُونَ. فَعُمْدَةُ الْجُمْهُورِ تَشَاوُرُ عُمَرَ وَالصَّحَابَةِ لَمَّا كَثُرَ فِي زَمَانِهِ شُرْبُ الْخَمْرِ، وَإِشَارَةُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ بِأَنْ يَجْعَلَ الْحَدَّ ثَمَانِينَ قِيَاسًا عَلَى حَدِّ الْفِرْيَةِ، فَإِنَّهُ كَمَا قِيلَ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «إِذَا شَرِبَ سَكِرَ، وَإِذَا سَكِرَ هَذَى، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى». وَعُمْدَةُ الْفَرِيقِ الثَّانِي أَنَّ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحُدَّ فِي ذَلِكَ حَدًّا، وَإِنَّمَا كَانَ يُضْرَبُ فِيهَا بَيْنَ يَدَيْهِ بِالنِّعَالِ ضَرْبًا غَيْرَ مَحْدُودٍ، وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شَاوَرَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَمْ بَلَغَ ضَرْبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِشُرَّابِ الْخَمْرِ؟
فَقَدَّرُوهُ بِأَرْبَعِينَ»
. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ فِي الْخَمْرِ بِنَعْلَيْنِ أَرْبَعِينَ»، فَجَعَلَ عُمَرُ مَكَانَ كُلِّ نَعْلٍ سَوْطًا. وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مَا هُوَ أَثْبَتُ مِنْ هَذَا، وَهُوَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ فِي الْخَمْرِ أَرْبَعِينَ»، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عَلِيٍّ عَنِ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ طَرِيقٍ أَثْبَتَ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.
وَأَمَّا مَنْ يُقِيمُ هَذَا الْحَدَّ فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ يُقِيمُهُ، وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ فِي سَائِرِ الْحُدُودِ وَاخْتَلَفُوا فِي إِقَامَةِ السَّادَاتِ الْحُدُودَ عَلَى عَبِيدِهِمْ، فَقَالَ مَالِكٌ: يُقِيمُ السَّيِّدُ عَلَى عَبْدِهِ حَدَّ الزِّنَى وَحَدَّ الْقَذْفِ إِذَا شَهِدَ عِنْدَهُ الشُّهُودُ، وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ بِعِلْمِ نَفْسِهِ، وَلَا يَقْطَعُ فِي السَّرِقَةِ إِلَّا الْإِمَامُ، وَبِهِ قَالَ: اللَّيْثُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُقِيمُ الْحُدُودَ عَلَى الْعَبِيدِ إِلَّا الْإِمَامُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُقِيمُ السَّيِّدُ عَلَى عَبْدِهِ جَمِيعَ الْحُدُودِ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ. فَعُمْدَةُ مَالِكٍ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الْأَمَةِ إِذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَنْ، فَقَالَ: إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ بِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ»، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا».
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَاعْتَمَدَ مَعَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» وَلِأَنَّهُ أَيْضًا مَرْوِيٌّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ، مِنْهُمُ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَنَسٌ. وَعُمْدَةُ أَبِي حَنِيفَةَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي إِقَامَةِ الْحُدُودِ هُوَ السُّلْطَانُ. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: الْجُمُعَةُ وَالزَّكَاةُ وَالْفَيْءُ وَالْحُكْمُ إِلَى السُّلْطَانِ.

.فَصْلٌ:[بِمَاذَا يَثْبُتُ هَذَا الْحَدُّ]:

وَأَمَّا بِمَاذَا يَثْبُتُ هَذَا الْحَدُّ، فَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَثْبُتُ بِالْإِقْرَارِ وَبِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ. وَاخْتَلَفُوا فِي ثُبُوتِهِ بِالرَّائِحَةِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْحِجَازِ: يَجِبُ الْحَدُّ بِالرَّائِحَةِ إِذَا شَهِدَ بِهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ شَاهِدَانِ عَدْلَانِ، وَخَالَفَهُ فِي ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ وَجُمْهُورُ عُلَمَاءِ الْبَصْرَةِ فَقَالُوا: لَا يَثْبُتُ الْحَدُّ بِالرَّائِحَةِ. فَعُمْدَةُ مَنْ أَجَازَ الشَّهَادَةَ عَلَى الرَّائِحَةِ تَشْبِيهُهَا بِالشَّهَادَةِ عَلَى الصَّوْتِ وَالْخَطِّ. وَعُمْدَةُ مَنْ لَمْ يُثْبِتْهَا اشْتِبَاهُ الرَّوَائِحِ، وَالْحَدُّ يُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا.